المقدمة: ينسب المنهج التجريبي الى الأوربيين، لما كان لهم من الفضل في إرساء واعد البحث العلمي، لكنه فضل يجعلنا نقف عنده لنتساءل عن دور العلماء المسلمين في إرساء قواعد البحث العلمي، والمشكل الذي نطرحه إذا كان تاريخ الفكر الإسلامي قد ترك لنا أسماء لعلماء أجلاء كان لهم الفضل الكبير في إرساء أسس العلوم و تطورها، هل هذا يعني أن المسلمين ساهموا في إرساء قواعد البحث العلمي ؟ إذا كان ذلك كذلك، فلماذا لا تنسب إليهم هذه المناهج ؟
التحليل: قبل ان نجيب عن هذا السؤال نعود قيلا الى تاريخ الفكر الإسلامي، لنبين كيف أن المسلمين قد أدركوا منذ فجر الحضارة الإسلامية، أن كل بحث لا بد له من منهج يتبعه الباحثون كي لا يقعوا في الخطأ، و طريقة يرتب بها أفكاره ترتيبا دقيقا، يمكنه من الكشف عن حقيقة مكشوفة، أو يبرهن عن صحة حقيقة معلومة، فحددوا هذه المناهج، وعينوا هذا الطرق، وتمكنوا بذلك من أن يصبغوا أبحاثهم بصبغة عملية، تجعلنا نشهد لهم بدورهم في إرساء قواعد البحث العلمي.
مثلا في ميدان جمع الأحاديث النبوية، اتبع المسلمون طريقة تمكنهم من التمييز بين الحديث الصحيح و الضعيف و المزيف، لوضع حد للفوضى العارمة في ميدان جمع الأحاديث النبوية، وتسرب الأقوال المزيفة التى نسب الى الرسول(ص)، وامتزاج أحاديثه عليه السلام بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين.
رأى الإمام البخاري و الإمام مسلم ان من أهم شروط جمع الأحاديث هو الإسناد، ووضعوا له مقاييس خاصة، أهمها التعديل و التجريح الذي يتطلب معرفة واسعة بتاريخ رجال الحديث و سيرهم و مذاهبهم. نفس المشكلة واجهت المسلمين في ميدان التشريع بعد موت الرسول (ص) (مصدر التشريع)، فعمل علماء أصول الفقه على تحديد منهج يتبعه علماء الفقه عند التشريع، ليتجنبوا الأخطاء، وقد استخلص الإمام محمد بن إدريس الشافعي أصول التشريع في أربعة هي: كتاب الله وكتاب نبيه و الإجماع و القياس. يقول:” ليس لأحد أبدا أن يقول في شيء حل أو حرم إلا من جهة العلم، وجهة العلم الخبر في الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس.” و يكون الاجتهاد هنا قائما على العلم باللغة العربية، لفهم ما تدل عليه النصوص التشريعية فهما صحيحا، لهذا فهو منهج قائم على طلب المعاني من الألفاظ، فيحين وضع الإمام الشاطبي (توفي 790هـ) منهجا قائما على طلب المقصود من الحكم التشريعي. إن أحكام الشريعة الكلية العامة تبنى على مقاصد معينة، على المشرع معرفتها حتى لا تتناقض معها أحكامه التشريعية التى يستنبطها منها. يقول الدكتور سامي علي النشار في كتابه ” مناهج البحث عند مفكري الإسلام” أول مسالة ينبغي توضيحها، هي اعتبار علوم الفصول بالنسبة الى الفقيه، كاعتبار المنطق بالنسبة الى الفلسفة” إذا كان المنطق منهجا يعصم العالم من الوقوع في الخطأ، فأصول الفقه منهج الفقيه يعصمه من الوقوع في الخطأ. كذلك عرف المسلمون في ميدان التاريخ مدرسة الرواية التى يمثلها محمد بن جرير الطبري (ت 310هـ)، يقوم فيها المؤرخ بجمع الأخبار كما نقلها له الراوي، وإذا عرض أخبارا لا يقبلها العقل، فالعهد في ذلك على الراوي وليس على المؤرخ كما يقول، لذلك عمل على ضبط السند و التأكد من نزاهة الرواة، والمدرسة البرهانية التى يمثلها العلامة بن خلدون الذي انتقد بشدة المنهج الروائي، و أرسى التاريخ على منهج جديد قائم على قواعد عامة هي: التزويد بالعلم و المعرفة بطبائع العمران، والتشكيك و الحيطة عند التعميم، و قواعد خاصة تقوم على التأمل و الاستقراء و التحقيق العقلي و التحقيق الحسي و المقارنة و التجربة و النظر في الحوادث في إطارها الزماني.
وجعل ابن خلدون بذلك التاريخ علما يتقصى الأسباب و العلل، ودواعي الوقائع الاجتماعية حتى تكون الأخبار و الحقائق التى تروى واقعية و صادقة. كما كان للمسلمين فضل كبير في إرساء قواعد المنهج التجريبي في العلوم الطبيعية، فقد أقاموا البحث على مبدأ ان لكل ظاهرة سببا، وللكشف عنه لابد من إتباع طريقة تجريبية يستعينون فيها بالرياضيات لضبطه ضبطا دقيقا.
أفصح ابن الهيثم عن طريقته في مقدمة كتابه “المناظر” التى لخصها في خطوات هي: استقراء الموجودات ة تصفح أحوال المبصرات و استنتاج التغيرات الممكنة، ثم التحقق منها للتوصل الى الحق. كذلك فعل جابر بن حيان الذي استخدم النهج الاستقرائي، واستعمل الملاحظة وافترض الفروض و تحقق من صدقها بواسطة التجربة، و قد سماها ” التدريب” في حين سماها بن الهيثم “الاعتبار”. هكذا تجاوز المسلمون المنهج الأرسطي القائم على العقل وحده، و الذي كان سائدا آنذاك، ونزلوا الى الواقع يستفزونه، ليقفوا على علل الظواهر الطبيعية، وقد نقلت أعمالهم و أبحاثهم الى اللغة اللاتينية في أواخر العصر المدرسي، وكان لها أثر كبير في بعث التفكير العلمي الحديث.
لكن إذا كان المسلمون قد استعملوا المنهج التجريبي، وأثرُوا البحث العلمي بأبحاثهم، فإن إرساء قواعد هذا المنهج لا تنسب إليهم، لأن المسلمين لم يكونوا فلاسفة معرفة على غرار ما فعل فرانسيس باكون وجون ستوارت مل، ولم يهتموا بالمعرفة كموضوع بحث، وإنما كانوا علماء طبقوا المنهج التجريبي، وإن كانت هناك بعض العمال التى كانت في هذا الاتجاه، كإخوان الصفا الذين ركزوا على المنهج الاستقرائي، لكن أعمالهم تبقى شذرات متفرقة، فاهتموا بذلك بالجانب التطبيقي مهملين الجانب النظري التأملي، في حين عرفت أوربا حركة فلسفة عامة أخذت المعرفة موضوعا للدراسة، بعد ان أدركوا أن المنهج الأرسطي وحده لا يكفي لدراسة الطبيعة دراسة صحيحة.
يرى سامي على النشار ان العرب كانوا علماء أكثر ما كانوا فلاسفة، وربما يرجع ذلك الى الموقف المعادي الذي شنه ضدها بعض خصومها، يقول:” فإذا كان اليونان فضل في الفلسفة، فقد كان العرب فضل في العلم و المنهج.” إذا كان المسلمون في ميدان التشريع قد انقسموا الى قسمين، علماء أصول الذين يمثلون فلاسفة التشريع الذين اهتموا بالمنهج الصحيح للتشريع، وكيف يجب ان يكون، فكان جانبا نظريا خالصا. وعلماء الفقه الذين اخذوا هذا الجانب النظري، الذي يمثل الطريقة التى يجب عليهم إتباعها عند إصدار الأحكام التشريعية، فإنهم في ميدان البحث العلمي التجريبي في العلوم الطبيعية، لم يعرفوا هذا الجانب النظري، و عن كنا نستثني ابن خلدون الذي نراه في ميدان التاريخ قد نظر إليه نظرف فيلسوف معرفة، همه إرساء قواعد علم التاريخ بعد ان كان التاريخ فنا خالصا. غير ان افتقار التفكير الإسلامي لفلاسفة المعرفة ليس مبررا لإنكار فضلهم في إرساء قواعد البحث العلمي، كما فعل بعض المفكرين الأوربيين.
يقول سامي علي النشار ” نعلم ان أفكار الحسن بن الهيثم عاشت في أوربا في زمان ليس ببعيد عنا، كما نعلم ان أبحاث الطوسي في الرياضيات و تناوله لهندسة إقليدس و مصادراته، بقيت زمنا طويلا، يتناولها علماء أوربا، كما نعلم أيضا أن كتاب ابن سينا في الطب بقي المرجع الأساسي لكليات الطب في أوربا حتى القرن “السابع عشر”. كذلك يؤكد جورج سارتون الفضل الكبير الذي لعبته الحضارة الإسلامية في انبعاث الحضارة الأوربية. ويقول الأستاذ بريفولت:” لم يكن جورج بيكون في الحقيقة إلا واحدا من رسل العلم و منهج الحضارة الإسلامية الى أوربا المسيحية ” و نعلم أن جورج بيكون كان يؤمن بالدراسة العلمية و الوضعية، ودعا إليها في القرن الثالث عشر حيث لم تكن المعرفة العلمية في أوربا تعرف بعد. عن المسلمين كانوا السابقين الى استعمال التجربة للتحقق من صحة الفروض، و لم يترددوا في الجمع بين العقل و الواقع، والتردد الذي عرفه فرانسيس باكون، لينتهي الى إنكار دور العقل، وتعرف أوربا بذلك صراعا فلسفيا بين العقليين و الحسيين.
الخاتمة: هكذا نستنتج أن المسلمين، وإن لم يكونوا فلاسفة معرفة، إلا أنهم كانوا علماء اهتموا بالبحث العلمي، و ساهموا في إرساء قواعده و إنكار هذا الدور إجحاف في حقهم و تزييف للحقيقة العلمية و للتاريخ.